تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

وقوله تعالى : (فَما لَهُمْ) أي : الكفار (لا يُؤْمِنُونَ) استفهام إنكار ، أي : أيّ مانع لهم من الإيمان ، أو أي حجة في تركه بعد وجود براهينه.

(وَ) ما لهم (إِذا قُرِئَ) أي : من أي قارئ قراءة مشروعة (عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ) أي : الجامع لكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم الفارق بين كل ملتبس (لا يَسْجُدُونَ) أي : لا يخضعون بأن يؤمنوا به لإعجازه ، أو لا يصلون قاله مقاتل ، أو لا يسجدون لتلاوته لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قرأ (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) [العلق : ١٩] فسجد ومن معه من المؤمنين وقريش تصفق رؤوسهم فنزلت» (١). وعن أبي هريرة قال : «سجدنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) و إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» (٢). وعن نافع قال : صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) فسجد فقلت : ما هذه؟ قال : سجدت بها خلف أبي القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه. وليس في ذلك دلالة على وجوبها فهي مندوبة. وعن الحسن : هي واجبة. واحتج أبو حنيفة على وجوب السجود بأنه تعالى ذمّ من سمعه ولم يسجد. وعن ابن عباس : ليس في المفصل سجدة ، وما روى أبو هريرة يخالفه. وعن أنس : صليت خلف أبي بكر وعمر وعثمان فسجدوا.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي : بالقرآن والبعث.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي : بما يجمعون في صدورهم ويضمرون من الكفر والحسد والبغي والبغضاء ، أو بما يجمعون في صحفهم من الكفر والتكذيب وأعمال السوء ، ويدخرون لأنفسهم من أنواع العذاب.

وقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم استهزاء بهم ، أو أنّ البشارة بمعنى الإخبار ، أي : أخبرهم.

وقوله تعالى : (إِلَّا) استثناء منقطع ، أي : لكن (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تحقيقا لإيمانهم (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : غير مقطوع ولا منقوص ولا ممنون به عليهم. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أعاذه الله تعالى أن يعطيه كتابه وراء ظهره» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه ابن كثير في تفسيره ٤ / ٢٨٨.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٣٩.

٥٨١

سورة البروج

مكية ، وهي اثنتان وعشرون آية ومائة وتسع كلمات وأربعمائة وثمانية وخمسون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي أحاط علمه بالكائنات (الرَّحْمنِ) الذي عمّ جوده سائر المخلوقات (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل السعادة بالجنات.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))

وقوله تعالى : (وَالسَّماءِ) أي : العالية غاية العلوّ ، المحكمة غاية الإحكام (ذاتِ الْبُرُوجِ) قسم أقسم الله تعالى به ، وتقدّم الكلام على ذلك مرارا ، وفي البروج أقوال : فقال مجاهد : هي البروج الاثنا عشر ، شبهت بالقصور ؛ لأنها تنزلها السيارات. وقال الحسن : هي النجوم ، وقيل : هي منازل القمر. وقال عكرمة : هي قصور في السماء. وقيل : عظام الكواكب سميت بروجا لظهورها. وقيل : أبواب السماء.

وقوله تعالى : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) قسم آخر وهو يوم القيامة. قال ابن عباس : وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه.

واختلفوا في قوله سبحانه وتعالى : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) فقال أبو هريرة وابن عباس : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة. وروى مرفوعا : «اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة» (١) خرّجه الترمذي في جامعه. قال القشيري : فيوم الجمعة يشهد على عامله بما عمل فيه. قال القرطبي : وكذا سائر الأيام والليالي لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد ، وأنا فيما تعمل عليك شاهد ، فاعمل فيّ خيرا أشهد لك به غدا فإني إذا مضيت لم ترني أبدا ، ويقول الليل

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ٣٣٣٩ ، والطبراني في المعجم الكبير ٣ / ٣٣٨ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٤ / ١٧٠ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ١٣٦٢ ، والطبري في تفسيره ٣٠ / ٨٢.

٥٨٢

مثل ذلك» (١) حديث غريب. وحكى القشيري عن عمر أنّ الشاهد يوم الأضحى. وقال ابن المسيب : الشاهد يوم التروية ، والمشهود يوم عرفة. وروي عن علي : الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم النحر. وقال مقاتل : أعضاء الإنسان هي الشاهد لقوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ) [النور : ٢٤] الآية. وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمة والمشهود سائر الأمم لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣] الآية. وقيل : الشاهد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) [الأحزاب : ٤٥] وقيل : آدم. وقيل : الحفظة الشاهد والمشهود أولاد آدم ، وقيل : غير ذلك وكل ذلك صحيح.

واختلف في جواب القسم فقال الجلال المحلي : جواب القسم محذوف صدره أي : لقد (قُتِلَ) أي : لعن (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) وقال الزمخشري : محذوف ويدل عليه قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) وكأنه قيل : أقسم بهذه الأشياء أنهم ملعونون يعني : كفار قريش كما لعن أصحاب الأخدود ، فإنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين على أذاهم وتذكيرهم بما جرى على من قبلهم. واستظهر هذا البيضاوي. والأخدود : هو الشق المستطيل في الأرض كالنهر ، وجمعه أخاديد ، واختلف فيهم فعن صهيب أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان ملك فيمن كان قبلكم وكان له ساحر فلما كبر قال للملك : إني قد كبرت فابعث إليّ غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما ، وكان في طريقه إذا سلك إليه راهب فقعد إليه ، وسمع كلامه فأعجبه فكان إذا أتى الساحر مرّ بالراهب فقعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه وإذا رجع قعد إلى الراهب وسمع كلامه ، فإذا أتى أهله ضربوه فشكا إلى الراهب فقال : إذا خشيت الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر ،. فبينما هو كذلك إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس فقال : اليوم أعلم الراهب أفضل أم الساحر فأخذ حجرا ثم قال : اللهمّ إن كان أمر الراهب أحبّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى تمضي الناس فرماها فقتلها فمضى الناس فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب : أي بني أنت اليوم أفضل مني قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبلى فإن ابتليت فلا تدل عليّ فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوي الناس من سائر الأدواء ، فسمع جليس الملك وكان قد عمي فأتاه بهدايا كثيرة فقال : هذا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فإن آمنت به دعوت الله تعالى فشفاك فآمن بالله فشفاه الله تعالى ، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس فقال له الملك : من ردّ عليك بصرك؟ قال : ربي. قال : ربك رب غيري؟ قال : ربي وربك الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فجيء بالغلام فقال له الملك : أي بنيّ قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل وتفعل ، قال : إني لا أشفي أحدا إنما يشفي الله فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فجيء بالراهب فقال : ارجع عن دينك فأبى فدعا بالمنشار فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ففعل به كالراهب ، ثم جيء بالغلام فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه وقال : اذهبوا إلى جبل كذا فاصعدوا به ، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه فذهبوا به

__________________

(١) أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ٤٣١٦١ ، والقرطبي في تفسيره ١٢ / ٣٥٣ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٢ / ٣٠٣.

٥٨٣

فصعدوا به الجبل ، فقال : اللهمّ اكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فسقطوا وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به فاحملوه في قرقور وتوسطوا به البحر فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه ، فذهبوا به فقال : اللهمّ اكفنيهم بما شئت فانكفأت السفينة بهم فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله تعالى. فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك قال : وما هو؟ قال : تجمع الناس في صعيد واحد وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهما من كنانتي ثم ضع السهم في كبد القوس وقل : باسم الله رب الغلام ، ثم ارمني فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني. فجمع الناس في صعيد واحد وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، ووضع السهم في كبد القوس ، ثم قال : باسم الله رب الغلام ، ثم رماه فوقع السهم في صدغه فوضع يده على صدغه موضع السهم فمات. فقال الناس : آمنا برب الغلام ، آمنا برب الغلام ثلاثا ، فأتي الملك فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر قد والله نزل بك حذرك قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود بأفواه السكك فحدت وأضرم النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها. أو قيل له : اقتحم ، قال : ففعلوا حتى جاءت امرأة معها صبي لها فتقاعست أن تقع فيها ، فقال الصبي : يا أمّاه اصبري فإنك على الحق فاقتحمت» (١). قال البغوي : هذا حديث صحيح. وقيل : إنّ الصبي قال لها : قعي ولا تقاعسي. وقيل : ما هي إلا غميضة فصبرت. وذكر محمد بن إسحاق عن وهب بن منبه أنّ رجلا كان قد بقي على دين عيسى ، فوقع على نجران فأجابوه فسار إليه ذو نواس اليهودي بجنود من حمير ، وخيرهم بين النار واليهودية ، فأبوا عليه فخدّ الأخاديد وأحرق اثني عشر ألفا في الأخاديد. وقيل : سبعين ألفا. ثم غلب أرياط على اليمن فخرج ذو نواس هاربا واقتحم البحر بفرسه فغرق. قال الكلبي : وذو نواس قتل عبد الله بن التامر رضي الله عنه.

وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر أن خربة احترقت في زمن عمر فوجدوا عبد الله بن التامر واضعا يده على ضربة في رأسه ، إذا أميطت يده عنها أنبعت دما وإذا تركت ارتدّت مكانها ، وفي يده خاتم من حديد فيه : ربي الله. فبلغ ذلك عمر فكتب أن أعيدوا عليه الذي وجدتم عليه.

وعن ابن عباس قال : كان بنجران ملك من ملوك حمير يقال له يوسف ذو نواس بن شرحبيل في الفترة قبل أن يولد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبعين سنة ، وكان في بلاده غلام يقال له عبد الله بن تامر ، وكان أبوه سلمه إلى معلم يعلمه السحر فكره ذلك الغلام ، ولم يجد بدّا من طاعة أبيه فجعل يختلف إلى المعلم ، وكان في طريقه راهب حسن الصوت فأعجبه ذلك ، وذكر قريبا من معنى حديث صهيب إلى أن قال الغلام للملك : إنك لا تقدر على قتلي إلا أن تفعل ما أقول. قال : فكيف أقتلك؟ قال : تجمع أهل مملكتك وأنت على سريرك فترميني بسهم على اسم إلهي ، ففعل الملك فقتله فقال الناس : لا إله إلا إله ، عبد الله بن التامر لا دين إلا دينه ، فغضب الملك وأغلق باب المدينة ، وأخذ أفواه السكك وأخدّ أخدودا وملأه نارا ثم عرضهم رجلا رجلا ، فمن رجع عن الإسلام تركه ، ومن قال : ديني دين عبد الله بن تامر ألقاه في الأخدود وأحرقه ، وكان في مملكته امرأة فأسلمت فيمن

__________________

(١) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٣٠٠٥ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٢٣٤٠.

٥٨٤

أسلم ولها أولاد ثلاثة : أحدهم رضيع فقال لها الملك : ارجعي عن دينك وإلا ألقيتك وأولادك في النار فأبت ، فأخذ ابنها الأكبر فألقاه في النار ، ثم قال لها : ارجعي فأبت فأخذوا الصبي منها ليلقوه في النار فهمت المرأة بالرجوع فقال لها الصبي : يا أمّاه لا ترجعي عن الإسلام فإنك على الحق ولا بأس عليك فألقي الصبي في النار ، وألقيت أمّه على أثره.

وعن علي أنهم حين اختلفوا في أحكام المجوس قال : هم أهل كتاب ، وكانوا متمسكين بكتابهم ، وكانت الخمر قد أحلت لهم ، فتناولها بعض ملوكهم فسكر فوقع على أخته فلما صحا ندم وطلب المخرج ، فقالت له : المخرج أن تخطب الناس فتقول : يا أيها الناس إنّ الله تعالى أحل لكم نكاح الأخوات ، ثم تخطبهم بعد ذلك : إنّ الله تعالى حرّمه. فخطب فلم يقبلوا منه فقالت : ابسط فيهم السوط فلم يقبلوا ، فأمرت بالأخاديد وإيقاد النيران وطرح من أبى فيها ، فهم الذين أرادهم الله تعالى بقوله : (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) وعن مقاتل : كانت الأخاديد ثلاثة : واحدة بنجران باليمن ، وأخرى بالشام ، وأخرى بفارس حرقوا بالنار ، أما التي بالشام فهو أبطاموس الرومي ، وأما التي بفارس فبختنصر ، وأما التي بأرض العرب فهو يوسف ذو نواس. فأما التي بفارس والشام فلم ينزل الله تعالى فيهما قرآنا ، وأنزل في التي كانت بنجران. وذلك أنّ رجلا مسلما ممن يقرأ الإنجيل أجر نفسه في عمل وجعل يقرأ الانجيل فرأت بنت المستأجر النور يضيء من قراءة الإنجيل فذكرت ذلك لأبيها فرمقه فرآه فسأله فلم يخبره ، فلم يزل به حتى أخبره بالدين وبالإسلام فتابعه هو وسبعة وثمانون إنسانا ما بين رجل وامرأة ، وهذا بعد ما رفع عيسى عليه‌السلام إلى السماء ، فسمع ذلك يوسف ذو نواس فخدّ لهم في الأرض ، وأوقد فيها فعرضهم على الكفر ، فمن أبى أن يكفر قذفه في النار ، ومن رجع عن دين عيسى لم يقذفه ، وأنّ امرأة جاءت ومعها صغير لا يتكلم فلما قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت عن النار ، فضربت حتى تقدّمت فلم تزل كذلك ثلاث مرّات ، فلما كانت في الثالثة ذهبت ترجع فقال لها ابنها يا أمّاه إني أرى أمامك نارا لا تطفأ ، فلما سمعت ذلك قذفا جميعا أنفسهما في النار فجعلها الله وابنها في الجنة. فقذف في النار في يوم واحد سبعة وسبعون إنسانا فذلك قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ.)

وقوله تعالى : (النَّارِ) بدل اشتمال من الأخدود. وقوله تعالى : (ذاتِ الْوَقُودِ) وصف لها بأنها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها من الحطب الكثير وأبدان الناس ، واللام في الوقود للجنس.

وقوله تعالى : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) ظرف لقتل أي : لعنوا حين أحرقوا بالنار قاعدين حولها ، ومعنى عليها على ما يدنوا منها من حافات الأخدود كقوله (١) :

وبات على النار الندى والمحلق

وكما تقول : مررت عليه تريد مستعليا المكان الذي يدنو منه ، فكانوا يقعدون حولها على الكراسي. وقال القرطبي : عليها.

(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ) بالله من تعذيبهم بالإلقاء في النار إن لم يرجعوا عن

__________________

(١) صدره :

تشبّ لمقرورين يصطليانها

والبيت من الطويل ، وهو للأعشى في ديوانه ص ٢٧٥ ، والأغاني ٩ / ١١١ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٤٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٠٣ ، ولسان العرب (حلق) ، وبلا نسبة في مغني اللبيب ١ / ١٠١ ، ١٤٣.

٥٨٥

إيمانهم (شُهُودٌ) أي : يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه لم يقصر فيما أمر به أو شهود بمعنى حضور ، إذ روي أنّ الله تعالى أنجى المؤمنين الملقين في النار بقبض أرواحهم قبل وقوعهم فيها وخرجت النار إلى القاعدين فأحرقتهم. قال الرازي : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود القاتلين ، ويمكن أن يكون المراد بهم المقتولين. والمشهور أن المقتولين هم المؤمنون. وروي أن المقتولين هم الجبابرة. روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفرة فأحرقتهم ، ونجّى الله المؤمنين منها سالمين وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس والواحدي. وتأوّلوا قوله تعالى : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أي : في الآخرة (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي : في الدنيا.

فإن فسر أصحاب الأخدود بالقاتلين فيكون قوله تعالى : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) دعاء عليهم كقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] وإن فسر بالمقتولين كان المعنى : أنّ المؤمنين قتلوا بالنار فيكون ذلك خبرا لا دعاء. والمقصود من هذه الآية : تثبيت قلوب المؤمنين وإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد. وذكر لهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ليتأسوا بهذا الغلام في صبره على الأذى والصلب ، وبذل نفسه في إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه ، وكذلك صبر الراهب على التمسك بالحق حتى نشر بالمنشار ، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى.

(وَما نَقَمُوا) أي : وما أنكروا وكرهوا (مِنْهُمْ) من الخلات وكان ذنبا ونقصا (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) أي : يجدّدوا الإيمان مستمرّين عليه (بِاللهِ) أي : الذي له الكمال كله (الْعَزِيزِ) في ملكه الذي يغلب من أراد ولا يغلبه شيء. (الْحَمِيدِ) أي : المحيط بجميع صفات الكمال ، فهو يثيب من أطاعه أعظم ثواب وينتقم ممن عصاه بأشدّ العذاب. وهذا استثناء على طريقة قول القائل (١) :

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهن فلول من قراع الكتائب

أي : من ضرابها ، والكتائب بالتاء المثناة : جمع كتيبة وهي الجيش ، وقال ابن الرقيات (٢) :

ما نقموا من بني أمية إلا

أنهم يحلمون إن غضبوا

ونظيره قوله تعالى : (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ) [المائدة : ٥٩].

ولما ذكر تعالى الأوصاف التي يستحق بها أن يؤمن به ويعبد ، وهو كونه عزيزا غالبا قادرا يخشى عقابه ، حميدا منعما يجب الحمد على نعمه ، ويرجى ثوابه قرر ذلك بقوله تعالى : (الَّذِي لَهُ) أي : خاصة (مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : على جهة العموم مطلقا ، فكل من فيهما يحق عليه عبادته والخشوع له تقديرا ، لأنّ ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل منهمك في الغيّ ، وإنّ الناقمين أهل لانتقام الله تعالى منهم بعذاب لا يعدله عذاب. (وَاللهُ) الملك الأعظم الذي له الإحاطة الكاملة (عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فلا يغيب عنه شيء ، وهذا لأنّ الله علم ما فعلوا

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الذبياني في ديوانه ص ٤٤ ، والأزهية ص ١٨٠ ، وإصلاح المنطق ص ٢٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ٣٢٧ ، والدرر ٣ / ١٧٣ ، وشرح شواهد المغني ص ٣٤٩ ، والكتاب ٢ / ٣٢٦ ، وبلا نسبة في لسان العرب (قرع) ، (فلل).

(٢) البيت من المنسرح ، وهو لابن قيس الرقيات في ديوانه ص ٤ ، ولسان العرب (نقم) ، وتهذيب اللغة ٩ / ٢٠٢ ، والبيان والتبيين ٣ / ٣٦١ ، وطبقات فحول الشعراء ص ٦٥٤ ، وتاج العروس (نقم).

٥٨٦

وهو مجازيهم عليه.

ولما ذكر قصة أصحاب الأخدود أتبعها ما يتفرّع من أحكام الثواب والعقاب فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي : أحرقوهم بالنار ، يقال : فتنت الشيء إذا أحرقته ، والعرب تقول : فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته. ونظيره (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ٧]. قال الرازي : ويحتمل أن يكون المراد : كلّ من فعل ذلك. قال : وهذا أولى لأنّ اللفظ عامّ والحكم عامّ ، والتخصيص ترك للظاهر من غير دليل.

ولما كانت التوبة مقبولة قبل الغرغرة ولو طال الزمان عبر سبحانه بأداة التراخي فقال تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي : عن كفرهم وعما فعلوا.

(فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أي : بكفرهم (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي : عذاب إحراقهم المؤمنين في الآخرة ، وقيل : في الدنيا فأحرقتهم كما تقدّم ، ومفهوم الآية أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد ، وذلك يدل على أنّ الله تعالى يقبل التوبة من القاتل المتعمد خلاف ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما.

ولما ذكر سبحانه وعيد المجرمين ذكر ما أعدّ للمؤمنين بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان من المقذوفين في النار وغيرهم من كل طائفة في كل زمان (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) تحقيقا لإيمانهم (لَهُمْ جَنَّاتٌ) أي : بساتين تفضلا منه تعالى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : تحت غرفها وأسرّتها وجميع أماكنها (الْأَنْهارُ) يتلذذون ببردها في نظير ذلك الحرّ الذي صبروا عليه في الدنيا ، ويزول عنهم برؤية ذلك مع خضرة الجنان جميع المضارّ والأحزان.

(ذلِكَ) أي : الأمر العالي الدرجة العظيم البركة (الْفَوْزُ) أي : الظفر بجميع المطالب (الْكَبِيرُ) وهو رضا الله تعالى لا دخول الجنة.

وقال تعالى : (ذلِكَ الْفَوْزُ) ولم يقل تلك ، لأنّ ذلك إشارة إلى إخبار الله تعالى بحصول الجنان وتلك إشارة إلى الجنة الواحدة ، وإخبار الله تعالى عن ذلك يدل على كونه راضيا.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) أي : أخذ المحسن إليك المربي لك المدبر لأمرك الجبابرة والظلمة (لَشَدِيدٌ) كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢] قال المبرّد : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) جواب القسم ، والبطش هو الأخذ بعنف فإذا وصف بالشدّة فقد تضاعف.

ولما كان هذا البطش لا يتأتى إلا لكامل القدرة دل على كمال قدرته واختصاصه بذلك بقوله تعالى مؤكدا لما له من الإنكار : (إِنَّهُ هُوَ) أي : وحده (يُبْدِئُ) أي : يوجد ابتداء أيّ خلق أراد إلى أيّ هيئة أراد (وَيُعِيدُ) أي : ذلك المخلوق عند البعث. وروى عكرمة قال : عجب الكفار من إحياء الله تعالى الأموات أي : فنزلت.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : يبدئ لهم عذاب الحريق في الدنيا ثم يعيده عليهم في

٥٨٧

الآخرة ، وهذا اختيار الطبري. وقيل : يبدئ البطش ويعيده فيبطش بهم في الدنيا والآخرة ، أو دل باقتداره على الإبداء والإعادة على شدّة بطشه ، أو أوعد الكفرة بأن يعيدهم كما بدأهم ليبطش لهم ؛ إذ لم يشكروا نعمة الإبداء وكذبوا بالإعادة.

(وَهُوَ) أي : وحده (الْغَفُورُ) أي : الستور لعباده المؤمنين. وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بضمها.

وقوله تعالى : (الْوَدُودُ) مبالغة في الود. قال ابن عباس رضي الله عنهما : هو المتودّد لعباده بالمغفرة ، وعن المبرد : هو الذي لا ولد له. وأنشد (١) :

وأركب في الودّ عريانة

ذلول الجماع لقاحا ودودا

أي : لا ولد لها تحنّ إليه. وقيل : هو فعول بمعنى مفعول كالركوب والحلوب بمعنى المركوب والمحلوب. وقيل : يغفر ويودّ أن يغفر.

(ذُو الْعَرْشِ) ومالكه ، أي : ذو الملك والسلطان كما يقال فلان على سرير ملكه ، وإن لم يكن على سرير ، ويقال : ثلّ عرشه ، أي : ذهب سلطانه ، أو السرير الدال على اختصاص الملك بالملك ، وانفراده بالتدبير والسيادة والسياسة الذي به قوام الأمور ، وقرأ (الْمَجِيدُ) حمزة والكسائي بجرّ الدال على أنه نعت للعرش أو لربك في قوله تعالى : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) قال مكي : وقيل : لا يجوز أن يكون نعتا للعرش لأنه من صفات الله تعالى ا ه. وهذا ممنوع لأنّ مجد العرش علوّه وعظمه كما قاله الزمخشري. وقد وصف العرش بالكريم في آخر المؤمنين. وقرأ الباقون برفع الدال على أنه خبر بعد خبر. وقيل : هو نعت لذو ، واستدل بعضهم على تعدّد الخبر بهذه الآية ، ومن منع قال لأنها في معنى خبر واحد ، أي : جامع بين هذه الأوصاف الشريفة ، أو كل منها خبر لمبتدأ مضمر ، والمجد : هو النهاية في الكرم والفضل ، والله سبحانه موصوف بذلك وتقدّم وصف عرشه بذلك.

(فَعَّالٌ) أي : على سبيل التكرار والمبالغة (لِما يُرِيدُ) قال القفال : أي : يفعل ما يريد على ما يراه لا يعترض عليه أحد ، ولا يغلبه غالب فيدخل أولياءه الجنة لا يمنعه مانع ، ويدخل أعداءه النار لا ينصرهم منه ناصر ، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم ، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء ، فهو يفعل ما يريد.

وعن أبي اليسر : دخل ناس من الصحابة على أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه يعودونه فقالوا : ألا نأتيك بطبيب؟ قال : قد رآني. قالوا : فماذا قال لك؟ قال : إني فعال لما أريد. وقال الزمخشري : فعال خبر مبتدأ محذوف ، وإنما قال فعال لأنّ ما يريد ويفعل في غاية الكثرة. وقال الطبري : رفع فعال وهو نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب الغفور الودود.

تنبيه : دلت هذه الآية أنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. قال بعضهم : ودلت على أنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء لأنها دالة على أنه يفعل ما يريد.

(هَلْ) أي : قد (أَتاكَ) أي : يا أشرف الرسل (حَدِيثُ) أي : خبر (الْجُنُودِ) أي:

__________________

(١) يروى البيت بلفظ :

وأعددت للحرب خيفانة

جموم الجراء وقاحا ودودا

والبيت من المتقارب ، وهو بلا نسبة في لسان العرب (ودد) ، وتاج العروس (ودد).

٥٨٨

الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم وقوله تعالى : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) يجوز أن يكون بدلا من الجنود ، واستشكل كونه بدلا ؛ لأنه لم يكن مطابقا للمبدل منه في الجمعية. وأجيب : بأنه على حذف مضاف ، أي : جنود فرعون وأنّ المراد فرعون وقومه ، واستغنى بذكره عن ذكرهم لأنهم أتباعه ، ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار أعني لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه.

والمعنى : إنك قد عرفت ما فعل الله تعالى بهم حين كذبوا رسلهم كيف هلكوا بكفرهم فقومك إن لم يؤمنوا بك فعل بهم كما فعل بهؤلاء ، فاصبر كما صبر الأنبياء قبلك على أممهم.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : من هؤلاء الذين لا يؤمنون بك (فِي تَكْذِيبٍ) لك لا يرعوون عنه ، ومعنى الإضراب : أنّ حالهم أعجب من حال هؤلاء فإنهم سمعوا قصتهم ورأوا آثار هلاكهم وكذبوا أشدّ من تكذيبهم ، وإنما خص فرعون وثمود لأنّ ثمود في بلاد العرب وقصتهم عندهم مشهورة ، وإن كانوا من المتقدّمين ، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم ، وكان من المتأخرين في الهلاك فدل بهما على أمثالهما.

وقوله تعالى : (وَاللهُ) أي : والحال أن الملك الذي له الكمال كله (مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) وفيه وجوه :

أحدها : أن المراد وصف اقتداره عليهم وأنهم في قبضته وحصره ، كالمحاط إذا أحيط به من ورائه ينسدّ عليه مسلكه فلا يجد مهربا ، يقول الله تعالى : فهم كذا في قبضتي وأنا قادر على إهلاكهم ومعاجلتهم بالعذاب على تكذيبهم إياك فلا تجزع من تكذيبهم إياك فليسوا يفوتونني إذا أردت الانتقام منهم.

ثانيها : أن يكون المراد من هذه الإحاطة قرب هلاكهم كقوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢] فهو عبارة عن مشارفة الهلاك.

ثالثها : أنه تعالى محيط بأعمالهم ، أي : عالم بها فيجازيهم عليها.

(بَلْ هُوَ) أي : هذا القرآن الذي كذبوا به ، وهو لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (قُرْآنٌ) أي : جامع لكل منفعة جليلة بالغ الذروة العليا في كل شرف (مَجِيدٌ) أي : شريف وحيد في اللفظ والمعنى ، وليس كما زعم المشركون أنه شعر وكهانة.

(فِي لَوْحٍ) هو في الهواء فوق السماء السابعة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : إن في صدر اللوح لا إله إلا الله وحده ، دينه الإسلام ، ومحمد عبده ورسوله ، فمن آمن بالله عزوجل وصدّق بوعيده واتبع رسله أدخله الجنة ، قال : واللوح لوح من درّة بيضاء طوله ما بين السماء والأرض ، وعرضه ما بين المشرق والمغرب ، وحافتاه الدرّ والياقوت ، ودفتاه ياقوتة حمراء ، وقلمه نور وكلامه نور ، معقود بالعرش وأصله في حجر ملك.

وقرأ (مَحْفُوظٍ) بالرفع نافع على أنه نعت لقرآن ، والباقون بالجرّ على أنه نعت للوح. وقال مقاتل : اللوح المحفوظ عن يمين العرش وقال البغوي : هو أمّ الكتاب ، ومنه تنسخ الكتب محفوظ من الشياطين ومن الزيادة فيه والنقصان. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة البروج أعطاه الله تعالى بعدد كل يوم جمعة وكل يوم عرفة يكون في الدنيا عشر حسنات» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٣٤.

٥٨٩

سورة الطارق

مكية ، وهي سبع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وإحدى وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) مالك الخلق أجمعين (الرَّحْمنِ) الذي عمّ جوده المؤمنين والكافرين (الرَّحِيمِ) الذي خص رحمته بعباده المؤمنين.

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩)فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

وقوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) قسم أقسم الله تعالى به ، وقد أكثر الله تعالى في كتابه العزيز ذكر السماء والشمس والقمر ؛ لأنّ أحوالها في أشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها عجيبة.

ولما كان الطارق يطلق على غير النجم أبهمه أوّلا ، ثم عظم القسم به بقوله تعالى : (وَما أَدْراكَ) أي : أعلمك يا أشرف خلقنا ، وإن حاولت معرفة ذلك وبالغت في الفحص عنه (مَا الطَّارِقُ) وهذا مبتدأ وخبر في محل المفعول الثاني لأدري ، وما بعد ما الأولى خبرها ، وفيه تعظيم لشأن الطارق. وأصله كل آت ليلا ومنه النجوم لطلوعها ليلا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وشعبة وابن ذكوان بخلاف عنه بالإمالة محضة ، وقرأ ورش بين اللفظين والباقون بالفتح.

ثم فسر الطارق بقوله تعالى : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي : المضيء لثقبه الظلام بضوئه فينفذ فيه كما قيل : درّيّ لأنه يدرؤه ، أي : يدفعه ، والمراد جنس النجوم أو جنس الشهب التي يرجم بها. وقال محمد ابن الحسين : هو زحل. وقال ابن زيد : هو الثريا. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هو الجدي. وقال عليّ : هو نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط فكان معها ، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة فهو طارق حين ينزل وحين يرجع.

وفي الصحاح : الطارق النجم الذي يقال له : كوكب الصبح. قال الماوردي : وأصل الطرق الدق ، ومنه سميت المطرقة ، وسمي النجم طارقا لأنه يطرق الجني أي : يقتله. روي أنّ أبا طالب أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخبز ولبن فبينما هو جالس يأكل إذا انحط نجم فامتلأت الأرض نورا ففزع أبو طالب ، وقال : أيّ شيء هذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا نجم رمي به وإنه آية من آيات الله تعالى»

٥٩٠

فعجب أبو طالب فنزلت السورة (١). وقال مجاهد : الثاقب المتوهج ، وجواب القسم.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ) أي : من الأنفس مطلقا لا سيما نفوس الناس (لَمَّا عَلَيْها) أي : بخصوصها (حافِظٌ) وقرأ ابن عامر وعاصم بتشديد الميم والباقون بتخفيفها فعلى تخفيفها تكون مزيدة ، وإن مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ، أي : إنه واللام فارقة وعلى تشديدها فإن نافية ، ولما بمعنى إلا. والحافظ : هو المهيمن الرقيب وهو الله تعالى ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) [الأحزاب : ٥٢] ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً) [النساء : ٨٥] ، أو ملك يحفظ عملها ويحصي عليها ما تكسب من خير وشرّ. وروى الزمخشري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب أحدكم عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين اختطفته الشياطين» (٢).

ولما ذكر تعالى أن على كل نفس حافظا أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في حاله فقال تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) أي : الآنس بنفسه الناظر في عطفه نظر اعتبار في أمره ونشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، ولا يملي على حافظه إلا ما يسرّه في عاقبته. وقوله تعالى : (مِمَّ خُلِقَ) استفهام ، أي : من أيّ شيء ، وجوابه.

(خُلِقَ) أي : الإنسان على أيسر وجه وأسهله بعد خلق أبيه آدم عليه‌السلام من تراب وأمّه حوّاء رضي الله تعالى عنها من ضلعه. (مِنْ ماءٍ دافِقٍ) أي : مدفوق ، فاعل بمعنى مفعول كقوله تعالى : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أو دافق على النسب ، أي : ذي دفق أو اندفاق. وقال ابن عطية : يصح أن يكون الماء دافقا ؛ لأنّ بعضه يدفق بعضا أي : يدفعه فمنه دافق ومنه مدفوق ، والدفق الصب أي : مصبوب في الرحم ، ولم يقل تعالى من ماءين فإنه من ماء الرجل وماء المرأة ، لأنّ الولد مخلوق منهما لامتزاجهما في الرحم فصارا كالماء الواحد ، واتحادهما حين ابتدئ في خلقه.

(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ) أي : للرجل وهو عظام الظهر (وَالتَّرائِبِ) أي : للمرأة جمع تربية وهي عظام الصدر حيث تكون القلادة ، وعن عكرمة : الترائب ما بين ثدييها ، وقيل : الترائب التراقي ، وقيل : أضلاع الرجل التي أسفل الصدر. وحكى الزجاج : أن الترائب أربعة أضلاع من يمنة الصدر وأربعة أضلاع من يسرة الصدر. وقال ابن عادل جاء في الحديث : «أنّ الولد يخلق من ماء الرجل يخرج من صلبه العظم والعصب ، ومن ماء المرأة يخرج من ترائبها اللحم والدم» (٣). وحكى القرطبي : أنّ ماء الرجل ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثيين ، وهذا لا يعارضه قوله تعالى : (مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) لأنه ينزل من الدماغ ثم يجتمع في الانثيين قال المهدودي : ومن جعل يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة لضمير للإنسان.

والضمير في قوله تعالى : (إِنَّهُ) للخالق المدلول عليه بخلق لأنه معلوم أن لا خالق سواه سبحانه وتعالى وفي الضمير في قوله تعالى : (عَلى رَجْعِهِ) وجهان أحدهما : أنه ضمير الإنسان

__________________

(١) الحديث ذكره البغوي في تفسيره ٥ / ٢٣٨.

(٢) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ٢٨٨ ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ٣ / ٣٨ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٠٩ ، والطبراني في المعجم الكبير ٧٧٠٤.

(٣) انظر القرطبي في تفسيره ٢٠ / ٦.

٥٩١

أي : بعثه بعد موته (لَقادِرٌ) وهذا قول ابن عباس رضي الله عنهما ، والثاني : أنه ضمير الماء ، أي : رجع المنيّ في الإحليل أو الصلب وهذا قول مجاهد. وعن الضحاك أنّ المعنى : إنه على ردّ الإنسان في الكبر إلى الشباب ومن الشباب إلى الكبر. وقال ابن زيد : إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج ؛ لقادر. وقال الماوردي : يحتمل أنه قادر على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه إلى الآخرة ؛ لأنّ الكفار يسألون فيها الرجعة.

وقوله تعالى : (يَوْمَ) منصوب برجعه ومن يجعل الضمير في رجعه للماء وفسره برجعه إلى مخرجه من الصلب والترائب ، أو الإحليل وحاله الأولى نصب الظرف بمضمر ، أي : واذكر يوم. (تُبْلَى) تختبر وتكشف ، (السَّرائِرُ) أي : ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرهما وما أخفى الأعمال وذلك يوم القيامة وبلاؤها تعرفها وتصفحها والتمييز بين ما طاب منها وما خبث. وعن الحسن أنه سمع رجلا ينشد (١) :

سيبقى لها في مضمر القلب والحشا

سريرة ودّ يوم تبلى السرائر

فقال : ما أغفله عما في والسماء والطارق. وقال عطاء بن رباح : إن السرائر فرائض الأعمال كالصوم والصلاة والوضوء والغسل من الجنابة ، فإنها سرائر بين الله تعالى وبين العبد ، ولو شاء العبد لقال : صمت ولم يصم ، وصليت ولم يصل ، واغتسلت ولم يغتسل فيختبر حتى يظهر من أداها ممن ضيعها. وقال ابن عمر : يبدي الله تعال كل سرّ فيكون زينا في وجوه ، وشينا في وجوه. يعني : فمن أدّاها كان وجهه مشرقا ، ومن لم يؤدها كان وجهه أغبر.

(فَما لَهُ) أي : لهذا الإنسان المنكر للبعث الذي أخرجت سرائره. وأغرق في النفي والتعميم فقال تعالى : (مِنْ قُوَّةٍ) أي : منعة في نفسه يمتنع بها (وَلا ناصِرٍ) أي : ينصره من عذاب الله تعالى فيدفعه عنه.

ثم ذكر تعالى قسما آخر فقال تعالى : (وَالسَّماءِ) أي : التي تقدّم الإقسام بها ، وصفها بما يؤكد العلم بالبعث فقال تعالى : (ذاتِ الرَّجْعِ) أي : التي ترجع بالدوران إلى الموضع الذي تتحرك عنه فترجع الأحوال التي كانت ، وتصرّمت من الليل والنهار والشمس والقمر والكواكب ، والفصول من الشتاء وما فيه من برد ومطر ، والصيف وما فيه من حرّ وصفاء وسكون ، وغير ذلك. وقيل : ذات النفع. وقيل : ذات الملائكة لرجوعهم فيهم بأعمال العبادة. وقيل : ذات المطر لعوده كل حين ، أو لما قيل : من أن السحاب تحمل الماء من البحار ، ثم ترجعه إلى الأرض ، وعلى هذا يجوز أن يراد بالسماء السحاب.

(وَالْأَرْضِ) أي : مسكنكم الذي أنتم ملابسوه ومعاينوه كل وقت. (ذاتِ الصَّدْعِ) أي : تنصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار والعيون ، نظيره : قوله تعالى : (ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [عبس : ٢٦] الآية والصدع بمعنى الشق لأنه يصدع الأرض فتنصدع به فكأنما قال تعالى : والأرض ذات النبات. وقال مجاهد : ذات الطرق التي تصدعها المشاة ، وقيل : ذات الحرث لأنه يصدعها ،

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للأحوص بن محمد الأنصاري في ديوانه ص ١١٨ ، ولسان العرب (ضمر) ، والتنبيه والإيضاح ٢ / ١٥٥ ، وتاج العروس (ضمر) ، والشعر والشعراء ص ٥٢٥ ، والأغاني ٤ / ٢٤٤ ، وبلا نسبة في أمالي القالي ٢ / ١٦٤.

٥٩٢

وقيل : ذات الأموات لإصداعهم عنها للنشور. قال الرازي : واعلم أنه تعالى كما جعل كيفية خلقة الحيوان دليلا على معرفة المبدأ والمعاد ، ذكر في هذا القسم كيفية خلقة النبات فقوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) كالأب ، وقوله تعالى : (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) كالأمّ وكلاهما من النعم العظام ، لأنّ نعم الدنيا موقوفة على ما ينزل من السماء مكرّرا ، وعلى ما ينبت من الأرض كذلك.

ثم أردف هذا القسم بالمقسم عليه وهو قوله تعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ) وفي هذا الضمير قولان أحدهما : ما قاله القفال : وهو أن المعنى : أنّ ما أخبرتكم به من قدرتي على إحيائكم يوم تبلى السرائر قول فصل وحق. والثاني : أنه عائد على القرآن ، أي : القرآن فاصل بين الحق والباطل كما قيل له : فرقان. قال الرازي : والأوّل أولى ؛ لأنّ عود الضمير إلى المذكور السالف أولى انتهى. وأكثر المفسرين على الثاني.

والفصل : الحكم الذي ينفصل به الحق من الباطل ، ومنه فصل الخصومات وهو قطعها بالحكم الجزم. ويقال : هذا قول فصل قاطع للشرّ والنزاع معناه جدّ ؛ لقوله تعالى : (وَما هُوَ) أي : في باطنه ولا ظاهره (بِالْهَزْلِ) أي : باللعب والباطل بل هو جدّ كله لا هوادة فيه ومن حقه وقد وصفه الله تعالى بذلك أن يكون مهيبا في الصدور ، معظما في القلوب ، يترفع به قارئه وسامعه أن يلم بهزل أو يتفكه بمزاح ، وأن يلقي ذهنه إلى أنّ جبار السموات والأرض يخاطبه فيأمره وينهاه ، ويعده ويوعده حتى إن لم يستفزه الخوف ، ولم تتبالغ فيه الخشية ، فأدنى أمره أن يكون جادا غير هازل ، فقد نفى الله تعالى عن المشركين ذلك في قوله تعالى : (وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ) [النجم : ٦١](وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] هذا على عود الضمير للقرآن ، وعلى جعله للأوّل فيكون الشخص خائفا وجلا من ذلك الذي تبلى فيه السرائر.

(إِنَّهُمْ) أي : الكفار أعداء الله تعالى (يَكِيدُونَ كَيْداً) أي : يمكرون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه. واختلف في ذلك الكيد ، فقيل : إلقاء الشبهات كقولهم (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) [الأنعام : ٢٩](مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٨](أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] وما أشبه ذلك وقيل : قصدهم قتله لقوله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [الأنفال : ٣٠] الآية.

وأما قوله تعالى : (وَأَكِيدُ) أي : أنا بإتمام اقتداري (كَيْداً) فاختلف فيه أيضا ، فقيل : معناه أجازيهم جزاء كيدهم ، وقيل : هو ما أوقع الله تعالى بهم يوم بدر من القتل والأسر ، وقيل : استدراجهم من حيث لا يعلمون ، وقيل : كيد الله تعالى لهم بنصره وإعلاء درجته تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر لقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠]. وقول الشاعر (١) :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

وكقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧](يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢].

ولما كان هذا معلما بأنهم عدم لا اعتبار بهم ، قال تعالى مسببا عنه تهديدا لهم (فَمَهِّلِ

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو لعمرو بن كلثوم في ديوانه ص ٧٨ ، ولسان العرب (رشد) ، وأمالي المرتضى ١ / ٥٧ ، والبصائر والذخائر ٢ / ٨٢٩ ، وجمهرة أشعار العرب ١ / ٤١٤ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٣٧ ، وشرح ديوان امرئ القيس ص ٣٢٧ ، وشرح القصائد السبع ص ٤٢٦ ، وشرح القصائد العشر ص ٣٦٦ ، وشرح المعلقات السبع ص ١٧٨ ، وشرح المعلقات العشر ص ٩٢.

٥٩٣

الْكافِرِينَ) أي : فمهل يا أشرف الخلق هؤلاء البعداء ، ولا تستعجل بالانتقام ولا بالدعاء عليهم بإهلاكهم فإنا لا نعجل لأنّ العجلة وهي إيقاع الشيء في غير وقته الأليق به نقص. وقوله تعالى : (أَمْهِلْهُمْ) تأكيد حسنه مخالفة اللفظ ، أي : أنظرهم (رُوَيْداً) أي : قليلا ، وهو مصدر مؤكد لمعنى العامل مصغر ، رودا وإروادا على الترخيم ، وقد أخذهم الله تعالى ببدر ونسخ الإمهال بالأمر بالجهاد والقتال.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشري إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله تعالى بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٣٨.

٥٩٤

سورة الأعلى

مكية ، في قول الجمهور وقال الضحاك مدنية ، قال النووي : وكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحييها لكثرة ما اشتملت عليه من العلوم والخيرات ، وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) عالم الغيب فلا تخفى عليه خافية (الرَّحْمنِ) الذي عمّ جوده كل أنس وجنّ وملك ودابة (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بمعرفتهم إحسانه.

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

واختلف في قوله سبحانه وتعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) فالأكثرون على أن المعنى : نزه ربك المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال عما لا يليق به ، فاسم زائد ، كقول لبيد (١) :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

وقيل : عظّم ربك (الْأَعْلَى) والاسم زائد كما مرّ ، قصد به تعظيم المسمى ، وذكر الطبري أن المعنى : نزه اسم ربك الأعلى عن أن تسمي به أحدا سواه. وقيل : نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم لذكره وقال الرازي : معنى (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي : نزّهه عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه. أما في ذاته فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض ، وأما في صفاته فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهية ولا ناقصة ، وأما في أفعاله فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور ، وأما في أسمائه فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصا بوجه من الوجوه ، سواء ورد الإذن

__________________

(١) عجزه :

ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر

والبيت من الطويل ، وهو في ديوان لبيد ص ٢١٤ ، والأشباه والنظائر ٧ / ٩٦ ، والأغاني ١٣ / ٤٠ ، وبغية الوعاة ١ / ٤٢٩ ، والخصائص ٣ / ٢٩.

٥٩٥

فيها أم لم يرد ، وأما في أحكامه سبحانه فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل لمحض المالكية. قال البغوي : ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحد ، لأنّ أحدا لا يقول سبحان الله وسبحان اسم ربنا إنما يقول : سبحان الله وسبحان ربنا. فكان معنى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) ا ه. وكون الاسم عين المسمى أو غيره قد ذكرتها في مقدّمتي على البسملة والحمدلة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : سبح أي : صل بأمر ربك. وذهب جماعة من الصحابة والتابعين على أنّ المراد قل : سبحان ربي الأعلى ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) فقال : «سبحان ربي الأعلى». وعن عقبة بن عامر «أنه لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤] قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اجعلوها في ركوعكم.» ولما نزل (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : اجعلوها في سجودكم» (١). وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول ذلك. وروي «أنّ أوّل من قال سبحان ربي الأعلى ميكائيل».

ولما أمر تعالى بالتسبيح فكأن سائلا قال : الاشتغال بالتسبيح إنما يكون بعد المعرفة فما الدليل على وجود الرب تعالى؟

فقال تعالى : (الَّذِي خَلَقَ) أي : أوجد من العدم فله صفة الإيجاد لكل ما أراده لا يعسر عليه شيء (فَسَوَّى) أي : مخلوقه. وقال الرازي : يحتمل أن يريد الناس خاصة ، ويحتمل أن يريد الحيوان ، ويحتمل أن يريد كل شيء خلقه تعالى ، فمن حمله على الإنسان ذكر للتسوية وجوها : أحدها : اعتدال قامته وحسن خلقه ، كما قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] وأثنى على نفسه بسبب خلقه إياه بقوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤]. ثانيها : كل حيوان مستعدّ لنوع واحد من الأعمال فقط ، أمّا الإنسان فإنه خلق بحيث يمكنه أن يأتي بجميع الأعمال بواسطة الآلات. ثالثها : أنه تعالى هيأه للتكليف والقيام بأداء العبادات. وقال بعضهم : خلق في أصلاب الآباء وسوّى في أرحام الأمّهات.

ومن حمله على جميع الحيوانات فمعناه : أنه أعطى كل حيوان ما يحتاج إليه من الآلات والأعضاء ، ومن حمله على جميع المخلوقات كان المراد من التسوية : هو أنه تعالى قادر على كل الممكنات ، عالم بجميع المعلومات ، يخلق ما أراد على وفق إرادته موصوفا بالإحكام والإتقان ، مبرّأ عن النقص والاضطراب.

وقرأ (وَالَّذِي قَدَّرَ) الكسائي بتخفيف الدال والباقون بالتشديد قال البغوي : وهما بمعنى واحد ، أي : أوقع تقديره في أجناس الأشياء وأنواعها وأشخاصها ومقاديرها وصفاتها وأفعالها وآجالها وغير ذلك من أحوالها ، فجعل البطش لليد ، والمشي للرجل ، والسمع للأذن ، والبصر للعين ونحو ذلك (فَهَدى) قال مجاهد : هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ والسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراعيها. وقال مقاتل والكلبي : في قوله تعالى : (فَهَدى) عرّف خلقه كيف يأتي الذكر الأنثى ، كما قال تعالى في سورة طه : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠] أي : الذكر للأنثى. وقال عطاء : جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها له. وقيل : قدّر أقواتهم وأرزاقهم وهداهم لمعاشهم إن كانوا أناسا ، ولمراعيهم إن كانوا وحوشا. وقال السدّي : قدّر مدّة الجنين في الرحم ثم

__________________

(١) أخرجه أبو داود حديث ٨٦٩ ، وابن ماجه حديث ٨٨٧ ، وأحمد في المسند ٤ / ١٥٥.

٥٩٦

هداه إلى الخروج من الرحم ، ومن ذلك هدايات الإنسان إلى مصالحه من أغذيته وأدويته وأمور دنياه ودينه ، وإلهامات البهائم والطيور وهوام الأرض إلى معايشها ومصالحها.

يقال : إن الأفعى إذا أتى عليها ألف سنة عميت ، وقد ألهمها الله تعالى أن تمسح عينيها بورق الرازيانج الغض فيردّ إليها بصرها ، فربما كانت في برية بينها وبين الريف مسيرة أيام فتطوي تلك المسافة على طولها وعماها حتى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها ، فتحك بها عينيها فترجع باصرة بإذن الله تعالى.

وقيل : (فَهَدى) أي : دلهم بأفعاله على توحيده ، وكونه عالما قادرا ، والاستدلال بالخلق والهداية معتمد الأنبياء ، قال إبراهيم عليه‌السلام (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ) [الشعراء : ٧٨] وقال موسى عليه‌السلام لفرعون : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٥٠].

ولما ذكر سبحانه ما يختص بالناس اتبعه ما يختص بالحيوان فقال تعالى : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي : أنبت ما ترعاه الدواب. وقال ابن عباس رضي الله عنهما : المرعى الكلأ الأخضر.

(فَجَعَلَهُ) أي : بعد أطوار من زمن إخراجه بعد خضرته (غُثاءً) أي : جافا هشيما (أَحْوى) أي : أسود يابسا. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون أحوى حالا من المرعى أي : أخرجه أحوى أي : أسود من شدّة الخضرة والري فجعله غثاء بعد حويه.

وقال ابن زيد : هذا مثل ضربه الله تعالى للكفار ولذهاب الدنيا بعد نضارتها.

وقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) بشارة من الله تعالى لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإعطاء آية بينة ، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي وهو أمّي لا يكتب ولا يقرأ فيحفظه ولا ينساه ، فهو نفي أخبر الله تعالى أنّ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينسى. وقيل : نهي ، والألف مزيدة للفاصلة كقوله تعالى : (السَّبِيلَا) [الأحزاب : ٦٧] أي : فلا تفعله كرامة ، وتكريره لئلا ينساه ، ومنعه مكي لأنه لا ينهى عما ليس باختياره. وأجيب : بأنّ هذا غير لازم ؛ إذ المعنى : النهي عن تعاطي أسباب النسيان وهو شائع. قال الرزاي : وهذه الآية تدل على المعجزة من وجهين.

الأوّل : أنه كان رجلا أمّيا فحفظه لهذا الكتاب المطوّل من غير دراسة ولا تكرار خارق للعادة فيكون معجزا.

الثاني : أنّ هذه السورة من أول ما نزل بمكة ، فهذا إخبار عن أمر عجيب مخالف للعادة سيقع في المستقبل ، وقد وقع فكان هذا إخبارا ، فيكون معجزا.

في المشيئة في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي : الملك الذي له الأمر كله وجوه : أحدها : التبرّك بهذه الكلمة كقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ـ ٢٤] فكأنه تعالى يقول : إني عالم بجميع المعلومات ، وعالم بعواقب الأمور على التفصيل ، ومع ذلك لا أخبر بوقوع شيء في المستقبل إلا مع هذه الكلمة ، فأنت وأمّتك يا أشرف الخلق أولى بها.

ثانيها : قال الفرّاء : إنه تعالى ما شاء أن ينسي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم شيئا ؛ إلا أن المقصود من ذكر هذا الاستثناء بيان أنه تعالى يصيره ناسيا لذلك لقدر عليه كقوله تعالى : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) [الإسراء : ٨٦] ثم إنا نقطع أنه تعالى ما شاء ذلك. ونظيره قوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَ

٥٩٧

عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] مع أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أشرك البتة ففائدة هذا الاستثناء أنّ الله تعالى يعرفه قدرته حتى يعلم أنّ عدم النسيان من فضل الله تعالى وإحسانه لا من قوّته.

ثالثها : أنّ الله تعالى لما ذكر هذا الاستثناء جوّز صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما ينزل عليه من الوحي أن يكون ذلك هو المستثنى ، فلا جرم بالغ في التثبت والتحفظ في جميع المواضع ، فكان المقصود من ذكر الاستثناء بقاءه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التيقظ في جميع الأحوال.

رابعها : أن ينساه بنسخ تلاوته وحكمه ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجهر بالقراءة مع قراءة جبريل عليه‌السلام خوف النسيان فكأنه قيل له : لا تعجل بها إنك لا تنسى ولا تتعب نفسك بالجهر بها.

(إِنَّهُ) أي : الذي مهما شاء كان (يَعْلَمُ الْجَهْرَ) أي : القول والفعل (وَما يَخْفى) أي : منهما ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما في قلبك ونفسك. وقال محمد بن حاتم يعلم إعلان الصدقة وإخفاءها. وقيل : الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك ، وما يخفى ما نسخ من صدرك.

وقوله تعالى : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) عطف على سنقرؤك ، فهو داخل في حيز التنفيس ، وما بينهما من الجملة اعتراض. قال الضحاك : واليسرى هي الشريعة اليسرى وهي الحنيفية السهلة. وقال ابن مسعود : اليسرى الجنة ، أي : نيسرك إلى العمل المؤدّي إلى الجنة ، وقيل : اليسرى الطريقة اليسرى ، وهي أعمال الخير.

والأمر في قوله تعالى : (فَذَكِّرْ) للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : فذكر بالقرآن (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي : الموعظة ، وإن شرطية ، وفيه استبعاد لتذكرهم. ومنه قول القائل (١) :

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم ، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوّا وطغيانا ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتلظى حسرة وتلهفا ويزداد جهدا في تذكيرهم ، وحرصا عليه فقيل : إن نفعت الذكرى وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير. وقيل : إن بمعنى إذا كقوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٣٩] وقيل : بعده شيء محذوف تقديره إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع. كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] أي : والبرد قاله الفراء والنحاس. وقيل : إن بمعنى ما لا بمعنى الشرط لأنّ الذكرى باقية بكل حال.

ثم بين تعالى من تنفعه الذكرى بقوله سبحانه : (سَيَذَّكَّرُ) أي : بوعد لا خلف فيه (مَنْ يَخْشى) أي : يخاف الله تعالى فهي كآية (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) [ق : ٤٥] وإن كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجب عليه تذكيرهم نفعتهم الذكرى أم لم تنفعهم. وقال ابن عباس : نزلت في ابن أمّ مكتوم. وقيل : في عثمان بن عفان. قال الماوردي : وقد تذكر من يرجوه إلا أن تذكر الخاشع أبلغ فلذلك علقها بالخشية دون الرجاء. وقال القشيري : المعنى : عمم أنت بالتذكير والوعظ وإن كان الوعظ إنما ينفع من يخشى ، ولكن يحصل لك ثواب الدعاء. فإن قيل : التذكير إنما يكون بشيء قد علم ، وهؤلاء لم يزالوا كفارا معاندين! أجيب : بأنّ ذلك لظهوره وقوّة دليله ، كأنه معلوم لكنه يزول بسبب التقليد والفساد.

تنبيه : السين في قوله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ) يحتمل أن تكون بمعنى سوف ، وسوف من الله تعالى

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو بلا نسبة في تاج العروس (حيي).

٥٩٨

واجب كقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) ويحتمل أن يكون المعنى : أنّ من خشي فإنه يتذكر وإن كان بعد حين بما يستعمله من التدبر والنظر.

ولما بين تعالى من ينتفع بالذكرى بين من لا ينتفع بها بقوله تعالى : (وَيَتَجَنَّبُهَا) أي : الذكرى أي يتركها جانبا لا يلتفت إليها (الْأَشْقَى.)

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ) وهو الكافر. فإن قيل : الأشقى يستدعي وجود شقي فكيف قال هذا القسم؟ أجيب : بأنّ لفظ الأشقى من غير مشاركة كقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) [الفرقان : ٢٤] ، وقوله تعالى : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧]. قال الرازي : الفرق ثلاثة العارف والمتوقف والمعاند ، فالسعيد هو العارف ، والمتوقف له بعض الشقاوة ، والأشقى هو المعاند. وقال الزمخشري : الأشقى هو الكافر ؛ لأنه أشقى من الفاسق ، أو الذي هو أشقى الكفرة ؛ لتوغله في معاداة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : نزلت في الوليد بن المغيرة وعقبة بن ربيعة.

واختلف في قوله تعالى : (الْكُبْرى) أي : العظمى على وجوه : أحدها : قال الحسن : هي نار جهنم ، والصغرى نار الدنيا. ثانيها : أنّ في الآخرة نيرانا ودركات متفاضلة ، فكما أنّ الكافر أشقى العصاة فكذلك يصلى أعظم النيران. ثالثها : أنّ النار الكبرى هي النار السفلى فهي نصيب الكفار ، كما قال تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥].

فإن قيل : قوله تعالى : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) يقتضي أن ثم حالة غير الحياة والموت ، وذلك غير معقول. أجيب : عن ذلك بوجهين : أحدهما : لا يموت فيستريح ولا يحيا حياة تنفعه كما قال تعالى : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) [فاطر : ٣٦] وهذا جاء على مذهب العرب يقولون للمبتلى بالبلاء الشديد لا هو حيّ ولا هو ميت. ثانيهما : أنّ نفس أحدهم في النار في حلقة لا تخرج فيموت ، ولا ترجع إلى موضعها فيحيا.

تنبيه : قوله تعالى : ثم للتراخي بين الرتب في الشدّة.

ولما ذكر تعالى وعيد من أعرض عن النظر في دلائل الله تعالى أتبعه بالوعد لضدّه فقال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ) أي : فاز بكل مراد (مَنْ تَزَكَّى) أي : تطهر من الكفر بالإيمان ؛ لما روي عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قد أفلح من تزكى وشهد أن لا إله إلا الله وخلع الأنداد وشهد أني رسول الله» (١). وقيل : تطهر للصلاة وأدّى الزكاة.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) أي : بقلبه ولسانه مكبرا (فَصَلَّى) أي : الصلوات الخمس. قال الزمخشري : وبه يحتج على وجوب تكبيرة الافتتاح وعلى أنها ليست من الصلاة ؛ لأنّ الصلاة معطوفة عليها. وقال قتادة : تزكى : عمل صالحا. وعن عطاء نزلت في صدقة الفطر. قال ابن سيرين : قد أفلح من تزكى ، قال : خرج فصلى بعد ما أدّى زكاة الفطر وصلى صلاة العيد. قال بعضهم : لا أدري ما وجه هذا التأويل فإنّ هذه السورة مكية ولم يكن بمكة عيد ولا زكاة فطر. وأجاب البغوي : بأنه يجوز أن يكون النزول سابقا على الحكم كقوله تعالى : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) [البلد : ٢] والسورة مكية وظهر أثر الحل يوم الفتح قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحلت لي ساعة من نهار» (٢). وقيل :

__________________

(١) الحديث أخرجه بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٣٧.

(٢) أخرجه البخاري في الجنائز حديث ١٣٤٩ ، ومسلم في الحج حديث ١٣٥٥ ، وأبو داود في المناسك حديث ٢٠١٧ ، والترمذي في الديات حديث ١٤٠٦ ، والنسائي في المناسك حديث ٢٨٩٢.

٥٩٩

المراد زكاة الأعمال لا زكاة الأموال ، أي : زكى أعماله من الرياء والتقصير. وروي عن عطاء أنه قال : إنّ هذه الآية نزلت في عثمان ، وذلك أنه كان بالمدينة منافق له نخلة مائلة إلى دار رجل من الأنصار ، إذا هبت الريح تساقط منها بسر ورطب في دار الأنصاري فيأكل هو وعياله من ذلك ، فخاصمه المنافق ، فذكر الأنصاري ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل خلف المنافق وهو لا يعلم نفاقه فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أخاك الأنصاري ذكر أنّ بسرك ورطبك يقع في منزله فيأكل هو وعياله منه فهل لك أن أعطيك نخلة في الجنة بدلها؟ قال : أبيع عاجلا بآجل لا أفعل» فذكروا أنّ عثمان قد أعطاه حائطا من نخل بدل نخلته. ويقول فيه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) وفي المنافق (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) وقال الضحاك : نزلت في أبي بكر

وقرأ (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أبو عمرو بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب ، ومعناه على القراءة الأولى : بل يؤثرون الأشقون ، وعلى القراءة الثانية : بل تؤثرون أيها المسلمون الاستكثار من الدنيا بالعز الحاضر مع أنها شرّ وفانية اشتغالا بها لأجل حضورها كالحيوانات التي هي مقيدة بالمحسوسات على الاستكثار من الثواب.

(وَالْآخِرَةُ ،) أي : والحال أنّ الدار التي هي غاية القصد المبرأة عن العيب المنزهة عن الخروج عن الحكمة (خَيْرٌ ،) أي : من الدنيا (وَأَبْقى) لأنها تشتمل على السعادة الجسمانية ، والروحانية ، والدّنيا ليست كذلك فالآخرة خير من الدنيا ولأنّ الدنيا لذاتها مخلوطة بالآلام والآخرة ليست كذلك ، ولأنّ الدنيا فانية والأخرة باقية ، والباقي خير من الفاني.

وعن عمر : ما الدنيا في الآخرة إلا كنفجة أرنب. وعن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية فقال : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة؟ قلنا : لا. قال : لأنّ الدنيا أحضرت ، وعجل لنا طعامها وشرابها ونساؤها ولذاتها وبهجتها ، وأنّ الآخرة نعتت لنا وزويت عنا فأحببنا العاجل وتركنا الآجل.

والإشارة في قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) إلى قوله (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى قوله (خَيْرٌ وَأَبْقى ،) أي : هذا الكلام وارد في تلك الصحف. وقيل : إلى ما في السورة كلها ، وهو رواية عكرمة عن ابن عباس. وقال الضحاك : إنّ هذا القرآن لفي الصحف الأولى ولم يرد أنّ هذه الألفاظ بعينها في تلك الصحف ، وإنما معناه أنّ معنى هذا الكلام في تلك الصحف.

ثم بين تلك الصحف وهي المنزلة قبل القرآن بقوله تعالى : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ) وقدمه لأنّ صحفه أقرب إلى الوعظ كما نطق به حديث أبي ذر (وَمُوسى) وختم به لأنّ الغالب على كتابه الأحكام والمواعظ فيه قليلة ، ومنها الزواجر البليغة كاللعن لمن خالف أوامر التوراة التي أعظمها البشارة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وروي عن أبيّ ابن كعب «أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كم أنزل الله تعال من كتاب؟ فقال : مائة وأربعة كتب ، منها على آدم عشر صحف وعلى شيث خمسون صحيفة ، وعلى أخنوخ وهو إدريس ثلاثون صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان» (١). وقيل : في صحف إبراهيم ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه ، مقبلا على شأنه. وعن عائشة قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في الركعتين اللتين يوتر بعدهما ب (سَبِّحِ

__________________

(١) أخرجه القرطبي في تفسيره ١ / ١٨٠.

٦٠٠